أسلوب النهي ودلالته في شعر البحتري بقلم الدكتور نور الدين بلجة
أسلوب النهي ودلالته في شعر البحتري بقلم الدكتور نور الدين بلجة
لا شك أن بين أسلوبي الأمر والنهي صلة وثيقة بحيث يصعب في الكثير من الأحوال الفصل بينهما أو دراستهما منفصلين ، فالمنطق يقتضي أن المخاطب إذا أمر بشيء ما فإنه ينهى عنه ضمنيا ،وهكذا قد تجاوز الأسلوبان في شعر البحتري في قصيدة المدح المتوجه بها إلى الوزير الفتح بن خاقان .
والنهي ( له حرف واحد ، وهو لا الجازمة في نحو قولك : لا تفعل وهو كالأمر في الاستعلاء،وقد يستعمل في غير طلب الكف أو الترك كالتهديد ، كقولك لعبد لا يمتثل أمرك : لا تمتثل أمري )1 بالنظر إلى ما سبق فأسلوب الأمر مثل صنوه في الأمر من حيث عدم تقييد دلالاته مقاصد بالظاهر المعلوم ،إذا لبنية دلالية سطحية لا تكاد تتعدى ( طلب كف عن فعل على جهة الاستعلاء )2.أما البنية الدلالية العميقة فهي متسعة ومنفتحة على مراد الشاعر وما أملته التجربة الشعرية ، وما أحاط بها من مشاعر مختلفة ومتفاوتة وأفكار تتقلب بين الذات والآخر الصديق الحبيب ، والعدو والخصم من جهة ، وإمكانيات القارئ وخبراته الماضية والحاضرة المعنوية والمادية وهو ما سارعنا للبحث عنه من خلال النماذج الشعرية التي سندرسها
يقول البحتري :
وَقالتْ: هلِ الفَتحُ بنُ خَاقَانَ مُعقِبٌ رِضًى، فيَعُودَ الشّملُ منّا مُلأّمَا؟
خَليلَيّ كُفّا اللّوْمَ في فَيْضِ عَبرَةٍ، أبَى الوَجْدُ إلاّ أنْ تَفيضَ وَتَسجُمَا
وَلاَ تَعْجَبَا مِنْ فَجعَةِ البَينِ إنّني وَجَدتُ الهَوَى طَعمَينِ: شهداً وَعَلقَمَا
عَذيرِي مِنَ الأيّامِ رَنّقْنَ مَشْرَبي، وَلَقّيتَني نَحْساً منَ الطّيرِ أشْأمَا3
تقع هذه المقطوعة في قصيدة ( لي الذنب ولك العتبى ) ورد أسلوب النهي في قوله ( ولا تعجبا ) فهو شكوى من العناصر الآتية : أداة النهي لا ، الفعل المضارع المجزوم وعلامة جزمه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة ، وهو الذي وقع به النهي ، الفاعل هنا الضمير المتصل ألف الاثنين
فالناهي هو الشاعر والمنهي هما المخاطبان والمنهى عنه ( عجب البين ) ، فالشاعر ينهى المخاطبين من التعجب والاستفراق والانقطاع واقع ، وهذا محزن ومؤسف لكن الشاعر غير جزع ولا هلع وهذا ما يبينه لنا البيت نفسه في قوله ( ...إنني ....وجدت الهوى طعمين شهدا وعلقما )
فالحب ليس دائما عسلا وحلاوة ورطبا وإنما كذلك هو مرارة وقحط وجفاف ، وبناء على ذلك فالشاعر قد نهى ثم بين علة النهي ، وفي ذلك إيناس للنفس وتطمئن لها وتربية للناس وتوجيه لهم ، فالحب والهوى لا يسيران في خط واحد بل قد ينكسر ويتلوى ، وقد يتعثر وينحني وتحميل قوله ( الهوى طعمين : شهدا وعلقما ) " روح الحكمة الخالدة التي يستحييها المحب إذا غر الماء وذبل الزهر "4 والتأكيد الذي استهل به الجملة الثانية التي تلت جملة النهي تبعث منه روح القمع واليقين بما سيحدث به ولأنه واقع قد عاشه وواقع قد استقاه من أحوال الناس ومن سير المحبين ومغامراتهم "وإذا كان أسلوب المرء صورة لنفسه ، فليس في شعر أبي عبادة ما يتفق وتلك الصورة المقيتة التي أراد أن يرسمها له بعض خصومه من الرواة حسبه أن يكون صاحب تلك الديباجة التي شملت الشعراء عبر عصور الأدب،تتعالى على جنباتها المعاني الشريفة والأوصاف البارعة ،ويسمو بها خيال طليق وصنيع شفاف "5 والمقطوعة الشعرية الآتية تزيدنا توضيحا للإبانة عن بعض معالم الديباجة الراقية والمعاني الشريفة والخيال الواسع يقول البحتري :
مَتى لاحَ بَرقٌ أَو بَدا طَلَلٌ قَفرُ جَرى مُستَهِلٌّ لا بَكِيٌّ وَلا نَزرُ
وَما الشَوقُ إِلّا لَوعَةٌ إِثرَ لَوعَةٍ وَغَزرٌ مِنَ الآماقِ يَتبَعُها غُزرُ
فَلا تَذكُرا عَهدَ التَصابي فَإِنَّهُ تَقَضّى وَلَم نَشعُر بِهِ ذَلِكَ العَصرُ6
هذه المقطوعة من ( غمام سماح) وهي من الأبيات الثلاثة الأولى من المقدمة الطللية الغزلية التي صدر بها البحتري قصيدته في مدح الوزير الفتح بن خاقان حيث استهل الشاعر قصيدته بالتذكير أنه كلما جد له حزن بعد الحب والفزع ، وكلما انكشف له ماتبقى من آثار الديار بكى وأسف وكيف لا يبكي ويتوجع والشوق يعتري الوجدان خطوة خطوة ويكتسح الفؤاد شيئا فشيئا من اللهب والاحتراق ، وشيئا فشيئا من الوجع والكمة التي تصاحبها الدموع دائما لا تنقطع ، وبعد ذكر الحزن والفزع ورؤية الطلل وبعد وبعد عرض كمه الشوق وكيف يستوطن الروح والقلب وبعد الكشف عما يقرن بذلك كله من بكاء، إلى مخاطبيه ينهاهما عن استحضار أي الفتوة والفتية وأوقات البراء والصفاء،وأسلوب النهي المعبر عن ذلك وهو ( فلا تذكر عهد التصابي ) والنهي هنا لا ينبغي أن يفهم في حدود الظاهر المتبادر إلى الذهن من القراءة الأولى فليس التذكير بوقت التصابي مقصودة لذاته وإنما لما يصاحبه عن التذكر من مشاعر الأسى والأسف ومن أحاسيس الحزن والقبح فذكر الحركة الماضية والحدة الفائتة والحب الذاهب والشوق الراحل في مقابل الانقطاع الواقع والسكوت الرائد والحزن الجاثم والشوق الملتهب يقول البحتري :
إِذا ما اِبتَدَرنا غايَةً جِئتُ سابِقاً وَجاءوا عَلى آثَرِ حَسري وَظُلَّعِ
فَلا تُلحِقَن بي مَعشَراً لَم يُؤَمِّلوا لَحاقي وَلَم يَجروا إِلى أَمَدٍ مَعي7
إن الجملة ( لم يؤلموا الحاقي ) فقد جاءت مفسرة لصفات وأحوال المعشر مثلها مثل الجملة المعطوفة (ولم يجروا إلى أمد معي ) زادت في إيضاح طبيعة المعشر وبعض سماتهم ، إن النهي عن إلحاق المعشر بالمشاعر يفهم فيه رفض التسوية في المرتبة والقيمة بينه وبينهم ،الشعور بالرفعة والعلو بالنسبة إلى أولئك الناس ، وعد القبول بالتعامل المشترك المتعادل من قبل الوزير الفتح بن خاقان ،اتجاهه واتجاه الآخرين فهم بائسون من الاقتراب من الشاعر وهم عاجزون مهما سعوا عن التسابق والتباري معه ، يمكن للقارئ إلى جانب ما يواجهه في المقطوعة الشعرية السابقة من تراكيب مختلفة مثل النهي والشرط والعطف ، فإنه كذلك يلاحظ بسهولة إيقاعا قويا ، وهو ظاهرة عامة عن الشعراء العباسيين تمثل طرفا من الفقرة الفنية النوعية التي أنتجوها والتي " لاتقوم أصلا على حسن استغلالهم للطاقة الناجمة عن الاستخدام البلاغي وأساليبه المتنوعة وترتكز في جوهره على نظم إيقاعية ، فالإيقاع لا يتولد عن مظاهر الفن البديعي وحسب بما فيه من إيقاع صوتي بل يتشكل كل عناصر الفن الشعري من أسلوب تركيبي وخيال تصويري وصوتي ودلالي إذ تقوم بين هذه الجوانب علاقات مواشحة تربط الدال بالمدلول والشكل بالمضمون وفق نظام إيقاعي خاص "8 يوجد في النص الشعري خصوبة في لفته وصوره وخياله وفي انسجامه وإيقاعاته الصغيرة والكبيرة ، ويبعث فيه حياة ثانية متجددة فيما يحتويه من خبرات فكرية وتجارب عاطفية يرتوي ويتزود منها المتلقون كما أقبلوا على قراءته وفهم دواله واستخلاص مداليله في كل زمان ومكان لم يكتف الشاعر بإنكار إلحاق القوم به بل راح يوضح سبب النهي والدافع إليه ، بل أعقب النهي بالجملتين حتى يقنع المخاطب ويبرز له أن النهي غير نابع من غيره أو حسد أو بغض منه فلاحظ للنفس فيه إنما متعلق بفقدان المؤهلات التي تحول بينهم وبين أن يرفعهم أحد إلى مصاف الأسياد ومرتبة الأشواق ومكانة المفكرين البارزين من الوزير الحاكم
المصادر والمراجع :
1-القزويني ، التلخيص في علوم البلاغة ، تحقيق : عبد الرحمن البرقوقي ، دار الفكر العربي ، مصر ، الطبعة 2 ، صفحة 170.
2-السبكي بهاد الدين ، عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح ، الجزء 1، تحقيق : عبد المجيدعنداوي ، الطبعة 1، 2003 ،المكتبة العصرية ، بيروت ، الصفحة 470.
3-البحتري ، الديوان ، الجزء 2 ، صفحة 411
4-أحمد الشايب ، الأسلوب دراسة بلاغية تحليلية لأصول الأساليب البلاغية ، الصفحة 74.
5-جورج غريب ، العصر العباسي ، نماذج شعرية محللة ، دار الثقافة ، الطبعة 3 ، 1978، الصفحة 1771 -172.
6- البحتري ، الديوان ، صفحة 470.
7- المصدر نفسه ، الجزء 2 ، صفحة 29-30
8-ابتسام أحمد حمدان ، الأسس الجمالية للإيقاع البلاغي في العصر العباسي ، دار القلم العربيى ، سوريا ، الطبعة 1 ، 1997، الصفحة 10
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق